0
القديس مكـــاريــوس الكبيــر
( أبـــو مقـــار )


 
وُلد هذا القديس في شبشير من أعمال منوف من أبوين صالحين بارين، اسم أبيه إبراهيم ولم يكن له ولد. فحدث في إحدى الليالي أن أبصر شخصًا من قِبَل الرب يقول له أن الرب سيرزقه ولدًا يكون ذكره شائعًا في أقطار الأرض ويُرزَق أبناء روحانيين. وبعد زمن رُزِق ولدًا فسماه مقاره أي الطوباوي، وكان مطيعًا لوالديه وقد حلت عليه نعمة الله منذ صغره. أقيم مقاريوس الشاب المحبوب من الكهنة ومن شعب القرية قارئًا "أغنسطس". ولما كملت قامته زوجه والده بغير إرادته فتظاهر بالمرض أيامًا، ثم استسمح أباه أن يمضي إلى البرية لتبديل الهواء فسمح له. فمضى وصلى إلى الرب يسوع أن يساعده على عمل ما يرضيه، فلما صار في البرية أبصر رؤيا كأن كاروبًا ذا ستة أجنحة قد أمسك بيده وأصعده على رأس الجبل وأراه كل البرية شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وقال له: "يقول لك الله أنه منحك أنت وأولادك هذا الجبل كله لتكرس كل وقتك للعبادة. كثير من القادة يأتون إلي هذه البرية. اسهر وتذكر ما أقوله لك: إن سلكت بكمال أظهر لك وأعلن لك كلمات الله?" وقد قيل أن الكاروب صحبه كل حياته تقريبًا". لما عاد من البرية وجد زوجته قد ماتت وهي بعد عذراء، فشكر السيد المسيح كثيرًا. وبعد ذلك مات أبواه فوزع كل ما خلَّفاه له على المساكين، ورأى أهل شبشير طهره وعفافه فأخذوه إلى أسقف أشمون فرسمه قسًا عليهم، وبنوا له موضعًا خارج البلد وكانوا يأتون إليه ويتقربون منه، وعينوا له خادمًا ليبيع له شغل يديه وقضاء ما يحتاج إليه. بعد فترة قصيرة من سيامته كاهنًا ذهب إلى قرية أخري إذ حسب نفسه غير أهل للكهنوت ولتكريم شعبه له. تذكر بعض المخطوطات أنه لم ينل نعمة الكهنوت إلا بعد ذهابه إلي الاسقيط.

لما رأى الشيطان تعاليمه في الفضيلة جلب عليه تجربة شديدة، وذلك أنه أوعز إلى فتاة كانت قد ارتكبت شرًا مع شاب بأن تدَّعي بأن القديس مقاريوس هو الذي أتى معها هذا الشر. فلما علم أهلها بذلك أهانوه وضربوه ضربًا موجعًا فتحمله وهو صامت. ولما داهم الطلق هذه المرأة لتلد لبثت أربعة أيام معذبة ولم تلد حتى اعترفت بكذبها على القديس، وذكرت اسم الشاب الذي أغواها. فلما رأى ذلك أهل الفتاة توجهوا إليه يستغفرونه عما حصل منهم له، فهرب منهم تنكرًا لمجد العالم، وكان له من العمر وقتئذ 30 عامًا، وإذ فكر ألا يعود إلى قلايته ظهر له ملاك الرب وسار معه يومين حتى وصلا إلى وادي النطرون، ثم قال له القديس: "حدد لي يا سيدي مكانًا أسكن فيه"، فأجابه: "لا لئلا تخرج منه فيما بعد فتكون مخالفًا لقول الرب، بل البرية كلها لك فأي موضع أردت أسكن فيه". فسكن في البرية الداخلية حيث الموضع الذي فيه دير القديسين مكسيموس ودوماديوس وهو المعروف الآن بدير البراموس. لما ذهب لزيارة القديس أنطونيوس قال عنه حينما رآه: "هذا إسرائيلي حقًا لا غش فيه"، ثم ألبسه الإسكيم المقدس وعاد مكانه. ولما تكاثرت عنده الأخوة بنى لهم كنيسة وذاع صيته وسمع به الملوك لكثرة العجائب التي كان يعملها. وظهر له ملاك الرب وأتى به إلى رأس الجبل عند البحيرة الغربية المالحة الماء وأعلمه أن يتخذ له هذا المكان مسكنًا، وبنى له قلاية وكنيسة لأن شعبًا كثيرًا سيجيء إليه.

أكد القديس مقاريوس أن برية الاسقيط تفقد قيمتها الرهبانية عندما تدخل إليها المدنية. قال: "عندما ترون القلالي اتجهت نحو الريف، اعرفوا أن نهاية الاسقيط قد اقتربت. وعندما ترون أشجارًا فاعلموا أنها علي الأبواب. وإذا رأيتم أطفالاً احملوا ثيابكم الجلدية واهربوا". حتى في برية الاسقيط اعتاد القديس مقاريوس أن يهرب من ازدحام الشعب. ويخبرنا بالاديوس أنه حفر سردابًا تحت الأرض يمتد من قلايته إلي حوالي نصف ميل وينتهي بمغارة صغيرة. فإذا ما جاءت إليه جموع كثيرة يترك قلايته سرًا إلي المغارة فلا يجده أحد. وقد أخبرنا أحد تلاميذه الغيورين أنه اعتاد أن يتلو 24 صلاة في طريقه إلى المغارة و24 صلاة في العودة. رجل الحب اكتشف القديس مقاريوس أن الفهم الحقيقي للتوحد ليس هو مجرد العزلة عن البشر، بل هو الرغبة الصادقة للاتحاد مع الله محب البشر. المتوحد الحقيقي يهرب بالجسد عن البشر لكنه عمليًا يحب كل إنسان. كان روح الحب والحنو يسود بين رهبانه كانعكاس لحب القديس لهم. وقد روي لنا روفينوس قصة عنقود العنب الذي قُدم للقديس فقدمها بدوره لراهبٍ مريضٍ، وعبر هذا العنقود من راهبٍ إلى آخر في كل القلالي دون أن يمسه أحد منهم ليقدمه للغير.
عُرف القديس بسمته الخاصة بستر الخطايا فقيل عنه: "صار إلهًا علي الأرض، فكما أن الله يحمي العالم ويحتمل خطايا الناس هكذا كان الأب مقاريوس يستر الأخطاء التي رآها أو سمعها كأنه لم يرَ أو يسمع شيئا". بحبه كسب وثنيين للإيمان، فقد جاء عنه أنه إذ كان ذاهبًا من الاسقيط إلي نتريا مع تلميذه سبقه التلميذ الذي التقي بكاهن للأوثان كان يجري. فقال له التلميذ: "إلي أين أنت تجري أيها الشيطان؟" فاستدار الكاهن وصار يضربه حتى تركه بين حي وميت. وإذ التقي بالقديس مقاريوس مدحه القديس: "لتصحبك المعونة يا رجل النشاط". دُهش الكاهن ونُخس قلبه ولم يترك القديس مقاريوس حتى جعله راهبًا.
ذات يوم ذهب الأب مكاريوس ليقطع الخوص، وكان الأخوة معه. فقالوا له في اليوم الأول: هلمّ وكل معنا يا أبانا،. فمضى وأكل. وفي اليوم التالي طلبوا منه أن يأكل معهم أيضًا. فأبى أن يأكل، وقال لهم: "أنتم تحتاجون إلى الطعام يا أولادي، لأنكم ما تزالون جسدًا، لكن أنا لا أريد أن آكل الآن". زار الأب مكاريوس الأب باخوميوس الطابنسيني، فسأله باخوميوس: عندما يكون عندنا اخوة بطّالون، هل يحسن أن نعاقبهم؟ أجابه الأب مكاريوس: عاقب واحكم بعدل من هم تحت أمرك ، لكن لا تدن أحدًا من خارج، لأنه قد كتب: "أنتم ألا تدينون الذين هم من داخل، أما الذين من خارج، فالرب يدينهم؟" (1 كو12:5).
كان الأب مقاريوس يزور أجد الاخوة يوميًا لمدة أربعة أشهر. فلم يجده ولا مرة قد فرغ من الصلاة، فتعجب وقال له: أنت ملاك أرضي حقًا.

تشير الأبوفثجماتا باتريم "أي أقوال الآباء" إلى صراعه ضد الشياطين. كما روى لنا بالاديوس عن إقامته ميتًا لكي يهدي هرطوقيًا لا يؤمن بقيامة الأجساد. ونال موهبة صنع المعجزات.

طلب يومًا من الرب أن يريه من يضاهيه في سيرته، فجاءه صوت من السماء قائلاً: "إنك إلى الآن لم تبلغ ما بلغت إليه امرأتان في مدينة الإسكندرية"، وسأل حتى وصل إلى منزلهما، فلما دخل رحبتا به وغسلتا قدميه، ولما استعلم منهما عن سيرتهما قالت له إحداهما: "لم تكن بيننا قرابة جسدية، ولما تزوجنا هذين الأخوين طلبنا منهما أن يتركانا لنترهَّب، ولما لم يسمحا لنا عاهدنا أنفسنا أن نقضي حياتنا بالصوم إلى المساء والصلاة الكثيرة. وقد رُزِقت كلٍّ منا بولد، متى بكى أحدهما تحضنه الواحدة وترضعه حتى وإن لم يكن ولدها، ونحن في عيشة واحدة ووحدة الرأي رائدنا واتحاد القلوب غايتنا، وعمل زوجينا رعاية الغنم ونحن فقراء ونكتفي بقوت يومنا وما يتبقى نوزعه على المساكين". فحينما سمع القديس هذا الكلام هتف قائلاً: "حقًا إن الله ينظر إلى استعداد القلوب ويمنح نعمة روحه القدوس لجميع الذين يريدون أن يعبدوه"، ثم ودعهما وانصرف راجعًا إلى البرية. كان بأوسيم راهب قد أضل قومًا بقوله أنه لا قيامة للأموات، فحضر إلى القديس مقاريوس أسقف أوسيم وشكا إليه أمر هذا الراهب، فذهب إليه ولم يزل به حتى أرجعه عن ضلاله.

في يوم نياحته رأى القديسين أنطونيوس وباخوميوس وجماعة من القديسين والملائكة، وأسلم الروح بالغًا من العمر سبعًا وتسعين سنة وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من برمهات سنة 392 م، وكان قد أوصى تلاميذه أن يخفوا جسده، فأتى قوم من أهل شبشير وسرقوا جسده وبنوا له كنيسة وضعوه نيف ومائة وستين سنة إلى ثم أرجعوه إلى ديره. من أقواله إن كنت وأنت تنتهر أحدًا يتحرك فيك الغضب، فأنت تشبع هواك، ففي خلاص أخيك لا تخسر نفسك. إن احتفظنا بتذكر الأخطاء التي ارتكبها الناس ضدنا، فإننا نحطم القدرة علي تذكر الله. إن طول الروح هو الصبر... والصبر هو الغلبة... والغلبة هي الحياة... والحياة هي الملكوت... والملكوت هو الله. البئر عميقة، ولكن ماءها طيّب عذب. الباب ضيّق، والطريق كَرِبَة، ولكن المدينة مملوءة فرحًا وسرورًا. البرج شامخ حصين ولكن داخله كنـــوز جليلة. الصوم ثقيل صعب، ولكنه يوصِّل إلى ملكوت السموات. فعل الصلاح عسير شاق، ولكنه ينجِّي من النار برحمة ربنا الذي له المجد.


صلوات وشفاعة هذا القديس العظيم فلتكن مع جميعنا دائماً
آميـــــ+ــــن


المصدر : تاريخ الكنيسة


إرسال تعليق

 
Top